موروثنا والحقائق المطلقة

"كأطفال لم نحظى بالفرصة لنختار معتقداتنا لكنا وافقنا على ما ورثناه من السابقين .... بمجرد الموافقة نكون قد تبنينا الموروث ، وهذا ما يسمى بالإيمان ، فالإيمان هو التصديق المطلق "

The Four Agreements; by Don Miguel Ruiz

عندما نأتي لهذه الحياة يولد معنا موروث هائل من الأفكار والمعتقدات والأعراف بل والخرافات ، جزء كبير من هذا الموروث يتحول مع مرور الزمن إلى مسلمات يندر أن يعاد تقييمها ، مثلا في مجتمعنا الصغير هنا قد يولد الطفل ليتعلم مع الوقت إنه مسلم وأن دينه هذا هو الدين الحق ومن لا يدين به فهو في ضلال بين و مصيره النار خالدا فيها ، ثم يكبر ليتعلم إن مساحة حرية الذكور أكبر من مساحة حرية الإناث وأن هذا من بديهيات العقول في حياتنا ، ثم يسمع كلمات مثل سني شيعي ويبدأ في الإدراك عندها إن كان سنيا أن الله اجتباه ليولد ضمن أهل هذا المذهب الذي يتبع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام بلا تحريف أو زيغ ، أما إن كان شيعيا فسيدرك أنه مميز ومن الأقلية الذين اختارهم الله أحبابا لاّل البيت عليهم رضوان الله ، ثم نأتي للموروث الاجتماعي ، فإن كان قبليا سيتعلم منذ صغره بأنه خالص الأصل نقي الدم ينتمي لأفخر قبيلة وأشجعها تاريخا ، أما إن كان حضريا فسيحمد الله أنه ولد ليكون أرفع قدرا من البدو الجهلة ... أضف لهذه الأمثلة الكثير مما يخطر في ذهنك ..

هذا الموروث بكل ما فيه من أحكام مسبقة واعتقادات خاطئة يشكل شخصياتنا وتصرفاتنا ، وهناك علاقة ايجابية بين انغلاق البيئة وضيق أو محدودية الحرية الفكرية فيها وبين قوة غرس هذا الموروث في عقل المتلقي .. لذا نجد أكثر الناس المتعصبين لاّرائهم هم محدودي الفكر والاطلاع ، وعلى الطرف الاّخر نجد أكثر الناس جرأة في الانقلاب على الموروث وتبني الجديد هم المنفتحين فكريا والمطلعين .. هذا الموروث هائل لدرجة أننا نضيع فيه ويهيمن علينا فلا نستطيع التمييز بين ما هو نتاج فكرنا الخالص وبين مافرض علينا فرضا لم نختاره ، فكل شيء يصبح حقيقة مطلقة! ، نعيش على اساسها ونتخذ قرارات مصيرية بسببها ومن ثم نورثها لمن يأتي بعدنا ...

هذا الموروث يحتاج إلى إعادة تقييم بين الحين والاّخر ، تنقيح بالأصح .. نعيد اختيار ما يناسبنا ونلغي ما بلى منه ، ونتبرأ مما ثبت خطأه .. هذه المواريث بحد ذاتها غير ثابته بل تتجدد مع مرور الأزمان بسبب بعض المؤثرات الكبيرة ، كدعوة دينية ، ثورة سياسية ، ثورة فكرية ، حروب ، وغيره ..

مما يعني أن الموروث يتغير مع مرور الزمن لكنه تغيير بطــــىء وليس بالضرورة للأفضل ، فبعض ما بلى وعفى عليه الدهر قد يعود مرة أخرى حسب ما تقتضيه الأحداث .. قبول هذا الموروث كما هو والسماح له بالتأثير في أنفسنا استسلاما بلا تقييم عقلاني يسلبنا أهم ما يميزنا وما نملك وهو "ذاتـنــا الحقيـقيـة" .. لذلك ينصح خبراء التربية (في العالم المتحضر) أن لا نلقن أطفالنا كل ما نعلم ونؤمن به بل أن نقنن المعلومات المنقولة ونترك لهم مساحة كبيرة – من الاطلاع والسؤال والنقاش - لاكتشاف ذواتهم وضمان استقلالية عقولهم ..

كتاب "The Four Agreements" ، كتاب صغير في حجمه لكنه عميق جدا في معانيه ، من أكثر الكتب التي أحدثت فارقا في حياتي الشخصية ، يتحدث فيه الكاتب عن هذه القوالب التي أعدت مسبقا لنا ، لنولد ونجد أنفسنا فيها غير مختارين ، يقول الكاتب أنه في كل مرة تتخلص من موروث فإنك تسترد جزء من طاقتك المسلوبة في الإيمان قسرا بشيء قد لا يلائمك أو غير صحيح أصلا ، هذه الطاقة المسترجعة يمكنك أن تستخدمها لإعادة تأسيس مفاهيمك في الحياة .. موضوع الكتاب ليس ترفا فكريا على الإطلاق بل العكس موضوع حيوي ومؤثر بصورة مباشرة في جودة حياتنا وحياة من حولنا ..

فكم نرث من اعتقادات دينية هي بالأساس مغلوطة وألصقت جورا في الدين

وكم نرث من المفاهيم المقيـدة لقدراتنا البشــرية

وكم نرث من الأحكام المسبقة على الاّخرين وضعت زورا

وكم نرث من الأعراف الظالمة لانســايتـنــا

وكم وكم الكثير ...

ألا يستحق كل هذا وقفات جادة

وبحث أكثر

والنظرللأمور من زوايا جديدة ...

ستفاجئـكم النتيـــجة ...